الملخص:
إن السيرة الذاتية جنس أدبي توجد في الآداب العالمية، وأما السيرة الذاتية في الأدب السعودي فنرى أن كتابة السيرة الذاتية ظهرت في وقت متأخر بالمقارنة مع الدول العربية الأخرى، وأن الباحثين يتفقون على أن المحاولة الأولى من هذا الشكل الفني التي قام بها هو أحمد السباعي الذي سجل سيرته الذاتية بعنوان “أبو زامل” ثم غير عنوانه إلى “أيامي” وكان أول هذا الكتاب الذي كتبه السباعي باعتباره رائدا من السيرة الذاتية في الأدب العربي السعودي.
المدخل:
يعتبر الأستاذ أحمد السباعي من رواد الثقافة الأوائل في المملكة العربية السعودية في القرن العشرين، وكان أديبا فذا وكاتبا كبيرا وصحفيا لامعا برز في مجال الصحافة في المملكة العربية السعودية حتى لقب بـ”شيخ الصحافة العربية في الحجاز”، وكما يعتبر أول من قام بالدعوة إلى كاتبة مسرح عربي سعودي، وكان كتابه “سلم القراءة” يعتبر أول مؤلف عربي يقرر على الطلاب والطالبات للمدارس العربية في المملكة، وهو الذي حصل على جائزة الدولة التقديرية في الأدب العربي عام 1404ه واستلم جائزتها من يد خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز في حفل أقيم تكريما وتقديرا له في المملكة العربية السعودية. كتب الأستاذ السباعي سيرته الذاتية بعنوان “أيامي” وقدم هذا الكتاب في الطبعة الأولى والثانية تحت عنوان “أبو زامل” في عام 1373هـ والموافق عام 1954م، وكان الهدف من ورائه أن يمثل جانبا من سيرته الذاتية ، وأن يمثل صورا من حياة الجيل الذي كان يعيش معه، وعندما فكر وتدبر في التوسع فيما يخص سيرته الذاتية تناسى أبا زامل وقدم للقراء بعنوان “أيامي” في الطبعة الثالثة من هذا الكتاب في عام 1939م- الموفق 1970م. وفي هذه المقالة الوجيزة سأحاول أن أقوم بدراسة تحليلية عن هذا الكتاب، وقبل الحديث عن الكتاب أرى من المناسب أن أسلط الضوء الخفيف على حياة الأستاذ أحمد السباعي وأعماله الأدبية البارزة.
نظرة خاطفة على حياة الأستاذ أحمد السباعي وأعماله الأدبية:
ميلاده:
ولد هذا الكاتب الألمعي في حارة الشامية في عام 1323هـ المصادف عام 1905م بمكة المكرمة، يقول عن ولادته “ولدت بمكة المكرمة عام 1323هـ وفي نحو الخامسة من عمري بدأت التعليم في الكتاب وظللت على هذا عدة سنوات حتى بنى الحسين بن علي مدارسه في مكة، وبعض المدن الأخرى “.[1]
رحلات أسرته المأساوية:
كان والد السباعي رجلا أميا عمل في مهنة الطوافة في المملكة العربية السعودية، وقد توفي عندما كان الرابعة عشرة من عمره، ووالدته اسمها “جواهر” كانت هي أيضاً إمرأة أمية، تزوج أربع زوجات، زوجته الأولى توفيت في حياته وأنجب منها ابنته الكبرى “آسيا” ثم تزوج زوجته الثانية وأنجبت له ابنته الثانية “عائشة” ثم تزوج زوجته الثالثة وأنجبت له أيضاً ابنه أسامه ثم تزوج زوجته الرابعة الأخيرة وأنجبت له أيضاً ابنه زهير.
تعليمه:
تهجى أولى الحروف العربية في كتاب زقاق الشيش حيث تعلم مباديء القراءة والكتابة ثم التحق بالمدرسة الهاشمية في عهد الشريف الحسين بن علي حيث حفظ بعض سور القرآن الكريم وبعد أن أكمل بتعليم حفظ القرآن الكريم توجه إلى المدرسة الراقية في جبل هندي، وبعد ذلك قد التحق بمدرسة الأقباط العليا بالإسكندرية ومكث بها نحو عامين ثم عاد إلى مكة المكرمة وخلال هذه الفترة من الزمان فقد والده وهو في سن مبكر فتحمل مسؤوليات أسرته يقول “وما كدت أواصل التعليم فيها نحو سنتين، حتى توفي والدي، وكانت البلاد تعاني أزمة اقتصادية شديدة بمناسبة الحرب العالمية الأولى، وأبي سوء الحظ في تلك المناسبة إلا أن يتوفي والدي فأصبحت أحس بأن على مسؤولية العائلة لأنني الابن الوحيد الكبير”.[2]
حياته العملية:
حينما ترك تعليمه على أثر وفاة والده فمارس التجارة وبعض الأعمال اليدوية لكي يعيل أسرته جمعاء، ثم بعد ذلك التحق بالعمل الصحفي بصفته محررا في جريدة “صوت الحجاز” ورئيسا لتحريرها ومديرا للجريدة العربية في العام نفسه، ثم انتقل إلى وزارة المالية حيث عمل فيها مفتشا ماليا وعمل خلال تلك الأيام سكريترا عاما للإذاعة العربية السعودية عندما أنشئت لأول مرة، ثم ترك العمل الحكومي حوالي عام 1370ه، وخلال هذه الفترة عمل في مجال الطوافة ثم تركه في عام 1368هـ كما كان الشيخ السباعي يشارك خلال هذا الزمان أيضا في الإعداد للنشاط المنبري الذي كان يقام في موسم الحج من كل عام ويلقي فيه عددا من الخطب العربية، وأنه أسس مطبعة الحرم في أجياد ثم أصدر منها جريدة “الندوة” في عام 1377هـ ثم أصدر مجلة “القريش” الأسبوعية في غرة جمادى الأولى عام 1379هـ الموافق 1959م، ثم توقفت عند صدور نظام المؤسسات الصحفية عام 1383هـ/1964م وعند توقف مجلة “قريش” أختير عضوا في مؤسسة مكة للطباعة والإعلام والتي تصدر عنها جريدة الندوة الحالية، كما أنه شارك في عدد كبير من اللجان منها: لجنة دراسة مناهج التعليم، ولجنة الدفاع عن فلسطين، ولجنة تنظيم مكتبة الحرم المكي، كان عضوا في جميعة تشجيع الطيران، وعضوا في جمعية الإسعاف الخيري، كما قام الأستاذ بالمشاركة في المؤتمر للأدباء والكتاب العرب في الكويت في عام 1378هـ كما كان له نشاط كبير ملموس في الإذاعة العربية السعودية والتلفاز من خلال بعض الأحاديث التي كانت تذاع له في عام 1395هـ.
أعماله الأدبية الخالدة :
قد خلف الأستاذ أحمد السباعي وراءه ذخيرة علمية حول الموضوعات المختلفة ومن أهمها: المرشد إلى الحج والزيارة، تاريخ مكة (دراسات)، وفلسطين الجن(قصص)، ويوميات مجنون(قصص)، وسلم القراءة العربية، ومطوفون وحجاج (قصص)، وقال وقلت (مقالات)، والأمثال الشعبية في مدن الحجاز، وأوراق مطوية، وسباعيات، ودعونا نمشي، وصحيفة السوابق، فككرة(قصص) وخالتي كدرجان(قصص) وغيرها الكثيرة.
وفاته:
وقد توفي السباعي في يوم الثلاثاء السابع عشر من شهر ذي الحجة عام 1404 هـ المصادف عام 1984م، بالمستشفى العسكري بالطائف ودفن بمقبرة المعلاة في مكة المكرمة، تغمده الله في فسيح جناته.
دراسة تحليلية لكتاب “الأيامي” للأستاذ أحمد السباعي
تعريف موجز عن الكتاب “أيامي”:
كتب الشيخ أحمد السباعي سيرته الذاتية المسمى بـ”أيامي”، وهذا الكتاب ما هو إلا بمثابة سيرة ذاتية عن حياته الشخصية والنفسية الخاصة به، حيث سرد فيه سردا منفصلا عن سيرته الذاتية منذ أيام طفولته وشبابه، كما ذكر فيه أول أيامه في الكتاتيب المختلفة والدراسات المتنوعة، كما تحدث فيه عن نشأته وتعليمه ووظيفته في مكة المكرمة، كما أنه يوصف أيضاً أهم المواقف التي تعرض لها في حياته الشخصية، ويحكي قصة تخرجه وبداية وظيفته كونه مدرسا بارزا في إحدى المدرسة من حيث تلقى تعليمه الابتدائي في أيام الطفولة، ويذكر لنا أيضاً تحوله إلى عالم الصحابة وبداية مشواره العلمي والأدبي والفني.
صدر كتاب “أيامي” في طبعته الأولى تحت عنوان ” أبوزامل ” في عام 1373هـ الموافق عام 1954م، وعندما تدبر وفكر في التوسع فيما يخص سيرته الذاتية تناسى ” أبا زامل” وقدم للقراء والدارسين الباحثين بعنوان “أيامي” في الطبعة الثالثة من هذا الكتاب في عام 1970م، وجاء إصدار نادي تبوك الأدبي لكتاب أحمد السباعي “أيامي” الذي صدر في طبعته الأولى قبل خمسين عاما عن طريق دار التهامة للنشر والتوزيع بجدة، يذكر عبد المقصود خوجه مشيرا إلى ذلك بقوله: “وقد رأيت من باب الأمانة العلمية أن أشير إلى كتاب صدر لأستاذنا السباعي بعنوان ” أبو زامل- قصة الجيل الماضي” في طبعته الثانية عام (1379هـ – 1959م) وطبع بمطابع دار قريش بمكة، ولم أقف على طبعته الأولى.. ومادة هذا الكتاب نفسها طبعت بعنوان “أيامي” الطبعة الأولى عام (1402هـ- 1982م) ضمن سلسلة الكتاب العربي السعودي “78” وقد أعمل المؤلف قلمه منقحاً”.[3]
وإن هذا الكتاب أعيد نشره قبل سنوات ضمن سلسلة الأعمال الكاملة لإثنينية عبد المقصود خوجه، ويعلق بافقيه بقوله “طبعة خوجه محدودة الانتشار، وطبعة نادي تبوك هي الأدق، بل هي أدق من طبعة تهامة، حيث إن المشكلة أن بعض كتب الرواد كانت تطبع طباعة عشوائية، ويتخللها كثير من الأخطاء، كتاب السباعي يصلح مقررا مساعدا في التعليم العام، النص حيوي وبديع ويبعث على حب الحياة، ويصلح للسينما والتلفزبون والمسرح، وغيره”.[4]
الدوافع التي دفعته إلى كتابة هذا الكتاب:
مما لا شك فيه أن السيرة الذاتية تحتل مكانة عالية لدى الأوساط العلمية والأدبية، وأنها قد تكون مرآة لصاحبها ومثلما هي مرآة لزمنها ووطنها ومجمتعها، وعندما نلقي نظرة عابرة على هذا الكتاب من السيرة الذاتية وجدنا أنه يعد من أول كتاب في فن السيرة الذاتية الذي قام بتدوينه الشيخ أحمد السباعي في القرن العشرين، وقدم فيه عن ترجمته الشخصية منذ الطفولة إلى الشباب سويا، فلعل هذه التوطئة تمكننا من السؤال المهم في أذهان كل من يقرأ هذا الكتاب بأنه لماذا كتب الشيخ أحمد السباعي سيرته الذاتية؟ وما هي البواعث والدوافع التي تحمله على الكتابة عن ترجمته الشخصية النفسية؟ هذه هي التساؤلات تأتي في أذهاننا كما تأتي في أذهان الباحثين الآخرين على العموم والمشتغلين بسيرة الذاتية على الخصوص، عندما نحاول للإجابة على هذه التساؤلات نجدها أن البواعث الجذرية التي تحمله على تدوين مذكراته بشكل كتاب مستقل هي طبعة الأحداث المتناسية والظروف القاسية التي كانت حدثت في تلك الحقبة من الزمان، وهي التي عاشها الشيخ السباعي مع أسرته وأصدقائه وزملائه، وكذلك من البواعث التي تدفعه على كتابة هذا الكتاب هو أن يمثل جانبا من سيرته الذاتية وأن يمثل صورا من حياة الجيل الجديد الذي كان يعيش معه في ذلك الحين.
القضايا التي تناولها الكتاب:
لا يخفى على أحد منا أن هذا الكتاب يعد من الأعمال المهمة في فن السيرة الذاتية في الأدب العربي السعودي، والذي يبدأه صاحب الكتاب بآية القرآن الكريم “وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ اْلذُّلِّ مِنَ اْلرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ اَرْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا” (صدق الله العظيم) ثم يبدأه بإهداء يوجهه إلى: “من جهل أثر التربية العالية في إعداد الجيل!! إلى: من ظن النجاح في أساليبها القاسية أهدي كتابي”.[5] قد احتوى هذا الكتاب على العديد من الفصول وكل فصل من الفصول يحمل عنوانا وكل العناوين المذكورة مرتبطة بحياة أحمد السباعي وآرائه وأفكاره وخواطره ومشاعره فهو العارض والمعروض والعاصف والموصوف.
عالج أحمد السباعي في هذا الكتاب فترة زمنية محددة من حياته بدءا من أول يوم من الأيام أدلج فيه إلى الكتاب وانتهاء عمله بصفته محررا في جريدة صوت الحجاز، وقدم عن نفسه مباشرة من خلال ذكر اسمه الأول يقول ” سماني أبي (أحمد) ودللتني أمي فكانت تناديني (أحمد حماده) وكانت أغنيتها الدائمة وهي ترقصني- ” أحمد حماده لب القلادة أمه تحبه وأبوه زيادة”. ولا أزال إلى اليوم أذكر أني كنت دلوعتها كما أذكر كلمات الأغنية التي ظلت تدللني بها إلى الأيام الأولى التي كنت أدلج فيها إلى الكتاب، وشاركها أبي في تدليل طفولتي الأولى لأنه رزق بي في سن اليأس ولعله عقد على رأسي آلاف الآمال والأماني”.[6]
ويقول عن ذلك الكتاب الذي أدخله فيه في أيام الطفولة “ودرج بي إلى الكتاب في زقاق الشيش في جوار المدعي، ولم يتركني حتى أضاف إلى جعل الفتوح قرشا زائدا للفقيه، ورجاه أن يعني بي، وألا تأخذه خشية في تربيتي.. (فاللحم لك يا سيدنا “يعني لحمي أنا” والعظم لي.. أنت كسر يا سيدنا وأنا أجبر) ولم ينس شأن العريف فقد كانت للعرفاء في كتاتيبنا صولة، وكان أحدهم لا يتسامح في حدود دولته مع الصبيان إلا لمن يعترف بحقوقه في الكتاب ويعرف كيف يسترضيه، ويقدم (هللاته) القليلة التي ينفحها إياه في كل صباح والده ليتشري بثمنها من بضاعته الفجة (فوفلة جنجاوي) واحدة… أو قطعة من (طبطاب الجنة) وكلتاهما نوع من الدقيق المحمر بمسحوق السكر”.[7]
ويذكر فيه عن أستاذ الدرس الذي عندما يوجه سؤالا عن أي معنى شرحه في درس سابق فبادر قبل غيره بالإجابة اعتمادا على ما كتب كما يقول ” ولقد ساءني هذا بقدر ما نفعني فقد كان أستاذ الدرس لا يكاد يوجه سؤاله عن أعي معنى شرحه في درس سابق حتى أبادر قبل غيري بالإجابة اعتمادا على ما كتبت إجابة لا تخرج عن النص الذي تلقيته منه بحروفه وألفاظه فربما سره هذا وهو لا يدري أنها إجابة آلية كنت لا أفهم مما تعنيه حرفا واحدا وبهذا ظللت في منأئ عن أكثر ما يفهمه غيري في أكثر الدروس كما أسأت من حيث لا أقصد إلى بعض زملائي الذين كانوا يستهلون الاعتماد على جريدتي!! على أن هذا لا يعني أن دراستنا كانت تحفل كثيرا بناحية الفهم فقد كان التحفيظ ركيزة هامة من ركائز التدريس، فكثيرا ما كنا نكلف حفظ المتن والشرح وما يتبعها من تعليقات”.[8]
وكان السباعي ضعيفا في قواعد اللغة العربية ولا سيما في الصرف بصورة عامة وفي النحو بصورة خاصة كما يذكر عن ذلك قائلا ” والذي يجب أن أعترف به أنني رغم ما عانيت في حفظ الأجرومية ورغم ما استطعت حفظه من ألفية ابن مالك عشت لا أدري ما جدوى ما أحفظ ولا أعرف شيئا عن مدى علاقته بتقويم لساني بل أعرف مبلغ حاجة لساني لأن يقوم، ليس معنى هذا أن أستاذ النحو كان لا يشرح لنا معاني ما حفظنا ولكن تلافيف الحفظ في دماغي اتسعت أكثر مما يجب لطول ما استعملتها فأخذت مكان غيرها من التلافيف فعطلتها عن وظائفها في الفهم فاصبحت عيا في فهم ما يشرح، ثم لبثت تلافيف الحفظ أن كلت وعجزت، ولبلادتي في الفهم تقدمت السن بي دون أن أحصل على حصيلة تستحق الذكر في علم النحو ولو لا أني شعرت بعد سنوات أنني فقير فيما يقوم لساني فاضطررت لقراءة كثير من الشروح لظللت إلى اليوم ل أعرف الغرض من علم النحو”.[9]
ولو قمنا بنظرة عابرة على الكتاب فوجدنا أن الأستاذ السباعي قد اعتنى عناية تامة بالعوامل الأساسية التي أثرت أثرا عميقا على نشأته وتربيته العلمية والأدبية في أيام الطفولة ألا وهي الكتاب والمدرسة والمنزل والحارة والأصدقاء والزملاء كما يقول في توصيف المدرسة الراقية الهاشمية حيث قضى عدة سنوات وأصبح من الحفاظ الممتازين الذين درسوا فيها ” قضيت نحو ثلاث سنوات في استظهار القرآن غيبا حتى أصبحت من حفاظه الممتازين واستطعت أن أحقق في امتحان نهاية السنوات الثلاث درجة طيبة أهلتني للنقل للصفوف التي تدرس العلوم على أنواعها في المدرسة التي سموها راقية، ورأيتني أشعر وأنا أختلط بالزمرة الجديدة من الطلبة أن مستواي في الفهم واستيعاب ما يقرره المدرس أدنى بكثير من مستوى زملائي، ولعل لتطرفي في إجهاد حافظتي أثرا في الضغط على بعض التلافيق في رأسي بصورة عطلت وظائفها في الفهم فابتكرت لنفسي أسلوبا أفيد به حاصل الشروح التي يلقيها أستاد الدرس”.[10]
كان الشيخ أحمد السباعي رغابا وعاشقا ومحبا للقراءة والمطالعة منذ نعومة أظفاره لذلك أنه قد قرأ قصص أبي الزيد الهلالي ثم ازدادت قراءته حتى قرأ ودرس سيرة ابن هشام وتاريخ ابن الأثير، وبعد القراءة هذه الكتب أنه وجد فيها لذة وطراوة وإبداعا يقول “ولازمني شغف القراءة وحب التدريس… فقرأت قصص أبي زيد الهلالي، وعشرات أمثالها مما لا تختلف كثيرا عن أسلوب العوام، ثم تقدمت قراءتي فدرست سيرة ابن هشام، وتاريخ ابن الأثير… فشعرت أنني أتلذذ بأسلوب أرقى مما كنت أقرأ وأحسست أنني أمازج المؤلفين فيما يكتبون، وأسايرهم فيما يعجبني من آراء، وأحنق عليهم فيما لا يعجبني، وأناقشهم في كل ما يحتمل المناقشة والجدال”.[11]
وكذلك تحدث في هذا الكتاب عن العديد من القضايا مثل جهل أمه الحنون وأثرها على تربية الأولاد الصغار، كما تكلم فيه عن جهل أبيه الذي لا يدري قراءة وكتابة لذلك نراه أنه يذكر عن والده في موضع حيث يقول “وكان أبي رحمه الله معذورا فيما يرى فقد نشأ أميا، وتركت الأمية في نفسه شعورا عميقا بالنقص، أراد أن يعوضه في خلفه بأفظع ما تراءى له من ألوان التعويض”.[12] هكذا ذكر فيه عن بعض العلماء والكتاب العرب الذين قاموا بأعمال كبيرة في العديد من مجالات العلمية والأدبية والفنية، كما ذكر فيه عن العلماء والكتاب الشبان الذين لمع نجومهم في ميدان العلم والأدب في المملكة العربية السعودية وذكر فيه عن الذين لعبوا دورا هاما في تطور اللغة العربية وآدابها بمؤلفاتهم القيمة والمصنفات النادرة الرائعة يقول ” في هذه الفترة المبكرة لمع في مكة من شبابنا الأساتذة محمد سرور الصبان، عبد الوهاب آشي، محمد سعيد العامودي، جميل مقادمي، عمر عرب، حسين نظيف، حسين سرحان، أحمد غزاوي وأحمد العربي، عبد السلام عمر، أمين عقيل، عبد الله فدا، حامد كعكي، عزيز ضياء ثم محمد سعيد عبد المقصود وأخيرا أحمد سباعي إذا قبلوا إضافته إلى أسمائهم”.[13] وكذلك يحكي لنا من خلال هذا الكتاب صورا آسرة لعدد من الجوانب الاجتماعية والثقافية والاقتصادية التي كانت موجودة آنذاك.
أسلوب الكتاب الأدبي:
إن هذا الكتاب القيم النادر يمتاز بأسلوب علمي جميل رائع جذاب خلاب وشيق لا نظير له، فألفاظه لطيفة ظريفة سهلة جدا، وكلماته مختارة بديعة، وتراكيبه متينة وأنيقة، وعلى الرغم من ذلك نرى في بعض المكان في هذا الكتاب أن الكاتب قد استخدم كلمات عامية لكنها ليست بصعبة جدا بل سهلة جدا يقدر القاريء أن يفهم بدون أي مشقة، على أية حال علينا أن نقرأ هذه العبارة القيمة المنفردة التي تصور لنا عن الكتاب ونظامه ومنهجه العلمي والتعليمي الذي كان رائجا في آنذاك، كما أنها تصور لنا عن تلك الألعاب المتنوعة التي كان يلعبها الأولاد الصغار مع الأصدقاء والزملاء على الساحات والطرقات والشوارع والأزقة الشيقة، وعن أنواع الحلويات التي كان العامة والخاصة من الناس يأكلونها في العشاء والغداء، وكذلك تصور لنا عن الخرافات والبدعات التي كانت منجمدة في أذهان عامة الناس عن العفاريت والعصبية التي كانت بين الأحياء، كما تذكر لنا عن ذلك المشهد من مشاهد الكتاب الذي يدرس فيه الشيخ السباعي يقول “كان شيخنا مصابا بما يشبه الصداع في رأسه، واعتقد أن صداعه من نوع لا يخفف وطأته إلى مزاولة العطاس، لهذا كان يعد في جيبه أعوادا من الكبريت وشيئا من القطن النظيف فإذا بدأ جلسته الصباح بيننا نسي وظيفة الحصة الأولى، وشرع يلف القطن على عود الكبيريب الذي أحضره لفا رقيقا تبدو نهايته رفيعة دقيقة ثم دسه في أنفه، وبالغ في إيصاله إلى آخر ما استطاع وأتاه العطاس أنساه محيطه وتركه مشغولا بمنديله الملوث… وكان يحلو لبعض المتشيطنين أن يداعبه أو يداعب الطلبة فيعمد إلى اصطياد بعض الذباب بيده، ثم يجعل في مؤخرة كل ذبابة (قشة) رفيعة طويلة، ثم يطلق الذباب في الغرفة ليثير الضحك بما صنع لها من أذناب طويلة، فإذا التفت إلى الثانية هدأ صاحبها، وانطلق ثالث في زاوية غيرها يضحك، فإذا شعر الشيخ أن المزاح قد ثقل، وأن ترتيبه متفق عليه.. أطرق إلى الأرض، وراح يبحث عن قطن جديد يعالج به أنفه!! فإذا أبت ذبابة مذيلة إلا أن تحط على أنفه، وترسل ذنبها من القش إلى ما بين عينيه رفع يده ثم وضعها على (القشة) الذنب، ثم عاد فأطلقها وهو يكتم ضحكة خافتة يخشى أن يسمعها الصبيان! وتنتهي عملية القطن والأعواد والعطاس بانتهاء الحصة الأولى”.[14]
وكذلك علينا أن نأخذ جملة بديعة أخرى يذكر لنا السباعي فيها عن عقائد الجيل الذي كانت منه جدته الأم كما يقول وهو يذكر عن أحاديثها الرائعة التي قالت له في أيام الطفولة “وكانت- رحمها الله- تنهى عن كنس البيت على أثر خروج المسافر منه، لأن ذلك يمنع عودته وتوصي بصب الماء خلفه في اللحظة التي يخرج فيها من الباب لأن الماء أمان!! وكانت تنهى عن غسل الثياب يوم الاثنين لأن صحابيا فقد ولديه على أثر الغسل يوم الاثنين كما تنهى عن خياطة الثوب فوق لابسه أو كنس البيت أثناء الليل أو شراء الفحم في شهر المحرم، لأن ذلك كله (بطال).. (وبس بطال) فإذا قلت (يا ستي) لم هو (بطال) صاحت في وجهي: (قم يا ولد.. أنت متفلسف)!!! إحنا ناس زي ما نسمع من الكبار!! نقول طيب وما علمت- رحمها الله- أن مأساة المسلمين في بعض كبارهم الذين ظلوا يسمعون منهم وهم يقولون طيب!! دون أن يناقشوا حقيقة هذا الطيب أو يبحثوا مصادره الصحيحة… وكانت ستي تفرض على كل من يخلع سنه من أحفادها أن يرمي به إلى وجه الشمس وهو يهيب يا شمس يا شموسه خذي سني.. واعطني من العروسة!!”.[15]
أقوال العلماء المعاصرين عن الكتاب:
إن هذا الكتاب يعد من أهم انتاجات الأستاذ أحمد السباعي، سرد فيه سردا منفصلا عن سيرته الذاتية منذ أيام الطفولة إلى الشباب، فإن هذا الكاتب الرائد نشر نصه أولا في عام 1954م بعنوان ” أبو زامل” وبعد حوالي عشرين عاما قرر الكاتب أن يضيف إليه بعض المواد المتعلقة بحياته الخاصة وبتطور وعيه وشخصيته ومن ثم نشره في طبعة ثالثة بعنوان جديد في عام 1970م وقد أشار على جواد الطاهر إلى تعدد طبعاته وإفصاحه وعن أهميته للمؤلف ومجتمعه قائلا ” وقد رأينا له (أبو زامل” الذي صار في طبعة ثالثة “أيامي”.[16] ويوضح الكاتب والباحث في التاريخ الثقافي حسين بافقيه كتاب السباعي الصادر أخيرا في طبعة جديدة نشره نادي تبوك بعد أن أخذ إذنا من الورثة حيث يقول ” أنا كنت الوسيط، راجعت الكتاب وصححته وكتبت كليمة بتوقيعي على الغلاف الأخير، طبعا لم يسعفنا الوقت الضيق لكي أحرره وأقدمه بمقدمة طويلة، الطبعة أشرفت عليها شخصيا، وأتوقع أنها ستحظى بعناية القراء، وطبعت بعد مراجعة دقيقة جدا، الحق أن حماسة رئيس لجنة المطبوعات وعضو مجلس نادي تبوك الأدبي عبد الرحمن الحربي، للكاتب ذللت كثيرا من العقبات، وأهمها الحصول على موافقة الورثة، وطبع الكتاب في مدة وجيزة جدا ليلحق معرض الرياض الدولي للكتاب”[17]
والكتاب في المعنى الحقيقي خير كتاب ومرجع تاريخي للنهضة العربية السعودية في القرن العشرين، قد عرض فيه الشيخ أحمد السباعي تجارب حياته الشخصية التي مر بها في مراحل حياته الأدبية والفنية كما يعلق أحمد جمال على الموضوع الذي يدور حوله الكتاب في قوله ” الواقع وأرجو أن لا يغضب أستاذي السباعي- أنه حاول عبثا ليثبت أن أسرته ومدرسته القديمتين المحافظتين.. قد أساءتا تربيته وتعليمه..”[18] ويقول الباحث سمحي ماجد الهاجري عن توصيف هذا الكتاب “وسيرة السباعي، بدت لمن درسوها أسهل مأخذا، وبخاصة أن ميثاقها القرائي تعدل مرتين تبعا لتطور سياقات التلقي، لأنها كتبت على مرحلتين، وصارت بهذا أقرب إلى منهج جورج ماي(George May)، المرن، وبالذات في صيغتها الأساس (أبو زامل)، منها إلى تعريف فيليب لوجون (Philippe Lejeune) الأكثر صرامة في الالتزام بحدود التعريف، ويمكن اعتبار السباعي، من خلال سيرته الذاتية، رائد أدب الاعتراف في واقعنا المحلي، وهو إنما بدأ بنفسه ليدعو المجتمع إلى الاعتراف بعيوبه ويتطهر من آصاره وأوضاره، كما تطهر هو باعترافاته وعالج عيوبه، منذ البداية، حتى صار من الأشخاص الذين يشار إليهم بالبنان”.[19]
خلاصة الكلام:
إن هذا الكتاب من السيرة الذاتية يعد من أهم انتاجات الأستاذ أحمد السباعي الذي قام بتسجيلها بعد تجربة علمية أدبية ومهارات واسعة وخبرات فائقة في مجال العلم والأدب، وأن هذا الكتاب يعد من كتبه النافعة المؤثرة على قلوب القراء والدارسين الباحثين القادمين ممن يريدون الإلمام بتطور السيرة الذاتية في المملكة العربية السعودية بصورة خاصة، وفي الأدب العربي الحديث بصورة عامة لأن الباحثين اتفقوا على أن المحاولة الأولى من هذا الشكل الفني التي قام بها هو أحمد السباعي الذي سجل سيرته الذاتية بعنوان “أبو زامل” ثم غير عنوانه إلى “أيامي” وكان هذا الكتاب الذي كتب السباعي باعتباره رائدا من السيرة الذاتية في الأدب العربي السعودي، إن هذا الكتاب مرجع كبير في موضوعه للباحثين القادمين وثروة ذات أهمية في مجال فن السيرة الذاتية.
[1] كتاب الإثنينية، (جدة: عبد المقصود خوجه، 1984م) ص: 07
[2] المرجع نفسه 07
[3] السباعي، أحمد، الأعمال الكاملة للأديب الأستاذ أحمد السباعي (جدة: عبد المقصود خوجه، رقم الإبداع 5514/1427في مكتبة الملك فهد الوطنية، الطبعة الأولى، 1984) ج، الجزء الأول ص: 02
[4] المرجع نفسه، ص: 02
[5] السباعي، أحمد، أيامي (تبوك: النادي الأدبي، الطبعة الثانية 2016) ص: 9
[6] المرجع نفسه، ص: 13
[7] المرجع نفسه، ص: 14
[8] المرجع نفسه، ص: 80
[9] المرجع نفسه، ص: 83
[10] المرجع نفسه، ص: 79
[11] المرجع نفسه، ص: 151/ 152
[12] المرجع نفسه، ص: 43/ 44
[13] المرجع نفسه، ص: 162/63
[14] المرجع نفسه، ص: 66/68
[15] المرجع نفسه، ص: 95
[16] الحكمي، الدكتوره عائشه، السيرة الذاتية عند أدباء المملكة العربية السعودية في مرحلة الطفرة من عام (1390- 1418هجـ) (عمان: دار كنوز المعرفة للنشر والتوزيع، 2015م) ص: 135
[17] المقالات: “كتاب “أيامي” للروائي أحمد السباعي يفتح ملفات تغييب الرواد” مجلة فكر الثقافة بتاريخ 05/03/ 2016 المنشورة على شبكة الإنترنت www.fikrmag.com/cul_news.php?news_id=881
[18] الحكمي، الدكتوره عائشه، السيرة الذاتية عند أدباء المملكة العربية السعودية في مرحلة الطفرة من عام (1390- 1418هجـ) (عمان: دار كنوز المعرفة للنشر والتوزيع، 2015م) ص: 135
[19]المقالات: أديب مكة المكرمة: أحمد السباعي.. قراءة في آثاره الأدبية، صحيفة المدينة الأربعاء 01/03/2014 المنشورة على شبكة الإنترنت al-madina.com/article/142473
المصادر والمراجع:
- السباعي، أحمد، الأعمال الكاملة للأديب الأستاذ أحمد السباعي (جدة: عبد المقصود خوجه، رقم الإبداع 5514/1427في مكتبة الملك فهد الوطنية، الطبعة الأولى، 1984) ج، الجزء الأول.
- الحكمي، الدكتوره عائشه، السيرة الذاتية عند أدباء المملكة العربية السعودية في مرحلة الطفرة من عام (1390- 1418هجـ) (عمان: دار كنوز المعرفة للنشر والتوزيع، 2015م).
- السباعي، أحمد، أيامي (منطقة تبوك: النادي الأدبي، الطبعة الثانية 2016)
- كتاب الإثنينية، (جدة: عبد المقصود خوجه، مكتبة الملك فهد الوطنية، 1984م)
- المقالات: أديب مكة المكرمة: أحمد السباعي.. قراءة في آثاره الأدبية، صحيفة المدينة الأربعاء 01/03/2014 شبكة الإنترنت al-madina.com/article/142473
- المقالات: “كتاب “أيامي” للروائي أحمد السباعي يفتح ملفات تغييب الرواد” مجلة فكر الثقافة بتاريخ 05/03/ 2016 المنشورة على شبكة الإنترنت www.fikrmag.com/cul_news.php?news_id=881
*الباحث في الدكتوراه، مركز الدراسات العربية والإفريقية، جامعة جواهر لال نهرو، دلهي الجديدة، الهند
Leave a Reply