إن العرب في العصر الجاهلي كانوا يعيشون حياة مشحونة بالعصبية وبالتفاخر وبالأنساب وما شاكلها حتى ظهر الإسلام. فغير مجرى التاريخ وتيار المجتمع وأساليب الحياة. وكان ظهور الإسلام في الواقع حدثا خطيرا وفتحا جديدا في حياة العرب. قلب الإسلام كل شيئ رأسا على عقب، وتبلورت آثار هذا التغيير والتبديل في كل مظهر من مظاهر الحياة. وذلك لأن الإسلام قد جاء لتهذيب الإنسان وتثقيفه، وتوحيده تحت ألوية الوحدة والوئام، وجاء لقيام مجتمع إنساني ترفرف عليه رأية الأمن والسلام، إذ هب فيه ريح المودة والإخاء والحب والحنان. فكان ظهور الإسلام في الحقيقة انقلابا دينيا، وتغييرا سياسيا واجتماعيا وأدبيا ولغويا، ولا بد لكل انقلاب وثورة أن تترك أثره في نفوس أولائك الذين واجهوا هذا التغيير في عقولهم وأفكارهم، فتطورت آدابهم وعلوهم ولغاتهم بما اقتضته طبيعة هذا الانتقال الذي غير مناهج تفكيرهم ومعتقداتهم وقيمهم وأخلاقهم. تطور الأدب العربي منذ ظهور الإسلام تطورا عميقا محسوسا باهرا. فإن العرب قد وجدوا بين أيديهم منهلا عذبا صافيا يفيض عليهم من سحره وإعجازه وبلاغته وفصاحته وطلاوته وحلاوته فنهلوا منه وانتزعوا معانيه وأغراضه وأسلوبه وألفاظه. اتضحت في كلامهم آثار هذه المعجزة الكبرى وتجلت فيه مظاهر هذه النقلة المفاجئة التي أتى بها القرآن الكريم. وقد وقع هذا التأثر في ألفاظ اللغة وأسلوبها، وفي فنون الأداب المختلفة من شعر ونثر. ولم يكن هذا التغير من أجل ما اكتسبه الناس من ثقافة وعلم وأدب من البلاد التي فتحها المسلمون، بل برجوعهم إلى المنبع والمصدر الأول لثقافتهم الدينية والعقلية والأدبية، فالقرآن الكريم هو الذي قلب خشونة الطباع عذوبة ولينة وسلاسة وقوة، والقرآن الكريم هو الذي غير حوشية اللسن سهولة ووضوحا، وبلاغة ورونقا واورث العرب وضوحا في التفكير ودقة في التعبير والتصوير وروعة في الحجة ورقة في الأسلوب. ومن أهم خصائص أسلوب القرآن أنه يوافق موفقة تامة كاملة بارعة نفسية المخاطب في تأدية الأغراض المنشودة الفاضلة، تأتي آياته في أداء معانيه وأغراضه حسب مقتضى الأحوال ومطابقا للأجواء الذهنية والوجدانية للمخاطبين التي يسبحون فيها. وكذلك يقوم أسلوبه في العبارات والربط بينها بما يوافق الانفعال النفسي من عنف ورقة، فهو يأخذ النفس دائما بموافقه. ومن المحقق أن أصدق الأدب وأعذبه وأروعه هو ما يثير الانفعال ويحرك العواطف والنفس بحركته دائما، ولذلك تنوعت أساليب القرآن الكريم بتنوع الحالة والموضوع وبإختلاف مستوى الوعي الوجداني والنفسي للمخاطبين في تناسق دقيق وانسجام لطيف.
النثر في العصر الجاهلي:
كان للعرب في الجاهلية نثر فني. وعندما نزل القرآن الكريم، وجاءت الدعوة النبوية الكريمة بجميع خصائصها الأدبية والفنية. وكانت هذه الدعوة النبوية غذاء صالحا للروح والفكر. فاستعبت هذه الدعوة الإسلامية الجديدة قيام نظام جديد وإدارة جديدة. وكان لا بد لنشر الدعوة الجديدة من التعاليم والإرشاد والوعظ. وكانت الأداة الصالحة لذلك الكلام المنثور ، لا المنظوم. فاقت أهمية النثر واحتل مكانة الشعر، وجعل القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف للنثر دولة ووضعاه في منزلة أسمى. فهذه الاسباب كلها ساعدت على نهضة النثر الفني.
النثر: النثر هو الكلام المرسل الذي لم يتقيد بقيود الوزن والقافية. وينقسم النثر إلى قسمين:
القسم الأول: النثر العلمي
القسم الثاني : النثر الفني
النثر العلمي: هو كلام مرسل يتناوله الأديب للاكتشاف عن الحقائق العلمية وإبرازها.
النثر الفني: أما النثر الفني فهو الكلام المرسل المرتفع عن اللغة الجافة، وعن لغة التخاطب والمحادثة. يشتمل على الأفكار المنظمة ويتسم بالروعة والتفكير ويتصف بتركيب الجمل وصياغة العبارة يثير المشاعر ويحرك العواطف وهذا النوع من النثر أجدر في الكتابة لأن الكاتب يرتب فيه أفكاره ويحدد معانيه وأغراضه ثم يأتي بالكلمات التي تناسب لها. يحتاج النثر الفني إلى الرقى الفكري والتهذيب العقلي وإلى وجود جماعة إنسانية منظمة راقية تسودها أوضاع حينما تنضج أفكاره وتتوسع ثقافته العلمية والأدبية يتوسع نثره وأدبه. والنثر البسيط يتحول إلى النثر الفني حينما يترقى صاحبه بثقافاته ومعارفه وعلومه وعقليته الفنية، فيزود ويزين نثره بكل ذلك.[1]
مفهوم النثر الفني:
يستمد النثر الفني في العصرالإسلامي معانيه من منهلين عذبين، من أدب القرآن الكريم والأدب النبوة، لأنهما وجها النثر نحو التخلق بالأخلاق الفاضلة الكريمة، التحلى بالأخوة الإنسانية النبيلة. أصبحت معاني النثر في هذا العصر منظمة منسقة، والأفكار مرتبة، وذلك لأن الإسلام يتطلب من معتقديه التنسيق والترتيب والتنظيم في كل أمر من الأمور، سواء يتعلق بالحياة وشؤونها أم بالأفكار وإنتاجها. إن هذا النثر الذي جاء إلينا كان موثوقا الرواية ثبتا أكثر من النثر الذي وصل إلينا من الجاهلية. ثم إن هذا النثر كان شديد التأثر في أغراضه وأساليبه بالقرآن الكريم من وجهين: كان في الدرجة الأولى أفصح ألفاظا، وأسهل تركيبا، وأعذب تعبيرا، أما من جهة الثانية، فقد كان أمتن سبكا، أبرع دلالة، أنق ديباجة، لأن الناثرين كانوا قد تأثروا ببلاغة القرآن الكريم التي كانت تجري في أساليب متعددة بتعدد الأغراض من ترغيب وترهيب، ومن وعد ووعيد، ومن سرد وقصص، ومن وصف وتشريع، ثم أن العرب كانوا قد جعلوا النثر ميدان براعتهم في التعبير عن المقاصد والمعاني، بعد أن كانوا قد انصرفوا عن الشعر كثيرا أو قليلا.[2]
القرآن الكريم ودوره في تطوير النثر الفني:
ومن أهم العوامل والأسباب التي لعبت دورا هاما في تطوير النثر الفني في العصر الإسلامي واتساع مداه وفسح آفاقه هي القرآن الكريم وبلاغته وإعجازه وأسلوبه وتعبيره الذي غير مناهج التفكير وطبيعة الحياة الأدبية. وقد ارتفع لمستواته الفكرية والعاطفية والبلاغية. وقد طعم النثر الفني بطعومات جديدة تتضح فيها معالم هذا التطور الشامل الذي ترتب على ظهور الإسلام. فقد أحدث فيه فنونا جديدة وموضوعات حديثة، لم يعهد بها العرب من قبل. فكساه خلع الحيوية والحركة والقوة، وعرفه ببيئة يحيطها الاستقرار، والحراة الإيمانية والعاطفة الدينية القوية الجياشة، فازداد توسعا وتفوقا عن الشعر.
أثر القرآن الكريم في اللغة العربية:
لقد تأثرت اللغة العربية في هذا العصر بالدعوة الإسلامية، فازدادت أغراضها وتوجهت نحو وجهات جديدة تختلف عما كانت عليه قبل الإسلام وأخذت تعبير عن عقول استضائت بهدى القرآن وتأدبت بأدب الإسلام. أثر القرآن الكريم في اللغة وأغراضها كما أثر في معانيها وأساليبها فبرز في معانيها الدقة والتفكير والفهم والعمق بما أفاده المسلمون من ثقافة القرآن الكريم. أما أسلوب اللغة فقد شاعت فيه العذوبة والسلاسة في جزالة، وأخذت أطرافه القوة والجمال والوضوح وروعة الـتأثير وقوة الحجة وتأجج العاطفة والتهاب الشعور ودقة الإحساس الأدبي. وذلك لتأثرهم بالقرآن وبلاغته مما رقق من نفوسهم القاسية ، فسلست طباعهم والسنتهم وملكاتهم، فلم تقبل إلا السمع المهذب من الأساليب.[3] قد اختار الله سبحانه وتعالى من ألفاظ اللغة العربية أفصحها وأيسرها على اللسان ، وأسهلها على الإفهام ، وأمتعها للآذان، وأقواها تأثيرا على القلوب وأوفاها تأدية للمعاني، ثم يركبها تركيبا محكم البنيان، لا يدانيه في نسجه كلام البشر من قريب ولا بعيد، وذلك لما يكمن في ألفاظه من الإيحاءات التي تعبر إلى خلجات النفس. أما ألفاظ القرآن فهي سهلة متينة قوية سلسة متخيرة عذبة، برئية من الضعف والإلتواء منطقية على مدلولها ومؤدية على معانيها المنشودة متسمة بالانسجام والأنغمام، بعيدة عن الحوشية والخفة، فهي كأنها در لامع منثور مصبوغ “تشع نورا كما يشع الفجر، وتهدر حركة وحياة ونموا وتجددا كما يهدر البحر، وتهدأ وتعذب وتسلس كما تهدأ صفحة النهر.[4] هي ألفاظ إذا اشتدت فأمواج البحار الزاخرة، وإذا هي لانت فأنفاس الحياة الآخرة.[5] إن القرآن الكريم أثر خالد من آثار النثر العربي، ومعجزة فنية رائعة. ومن المؤكد أن القرآن الكريم نثر فني خالص بلغ في نظمه وأسلوبه وتفوقه وإحكامه إلى مرتبة لا يسامى فيها. ولا يدرك مداها، وهي مرتبة الإعجاز. وقد نزل بلغة العرب، وعلى لسان رجل من رجالهم، نزل بتلك اللهجة الأدبية العامة الموحدة التي كان بها التصاول والتجاول في ميادين البلاغة والبيان، وبها وردت معظم الآثار الأدبية من شعر ونثر. وإن العرب كانوا أهل لسان وبلاغة وفصاحة. لهم في ميدان الفصاحة قدم ثابتة، فلما تحداهم القرآن الكريم أن يأتوا بمثله أو بعشر سور أو بسورة واحدة على الأقل، عجزوا عن الإتيان بمثله، لأنه معجز.
يتفرد القرآن الكريم من ناحية النظم والتأليف والنسق البياني ويتميز كل التمييز عن أساليب النثرية يصعد إلى سمو بيانه أسلوب لا يدانيه. لا يبلغ مرتبته كلام العرب من الفصحاء والبلغاء والأدباء في النظم والترتيب في المعاني والألفاظ وفي جودة البناء ومحكم السبك وفصاحة الأسلوب ، وفي تأدية الألفاظ لمعانيها وانطباقها على مدلولاتها. فللقرآن الكريم أسلوب لا يشاركه ولا يضاهيه أسلوب كلام البشر قبله ولا بعده، فلا يشوبه سجع ولا مزاوجة، ولا يمسه الشعر الموزون المقفى ولا الخطابة. يقول دكتور شوقي ضيف: “أنه حقا اختط أسلوبا جزلا، له رونق وطلاوة مع وضوح القصد والوصول إلى الغرض من أقرب مسالكه. وهو أسلوب ليس فيه زوائد ولا فضول، فاللفظ على أقدر المعانى كأنما رسم له رسما، وهو لفظ لا يرتفع عن الإفهام ولا عن القلوب، بل يقرب منها حتى يلمس الشغاف. ومما لا شك في أن القرآن هو الذي ابتدع هذا الأسلوب المحكم، بل هذا اأسلوب السهل الممتع يلذ الآذان حين تستمع له، والأفواه حين تنطق به، والقلوب حين تصفى إليه. هذا الأسلوب الذي يميز عربيتنا، والذي استطاع أن يفتح القلوب حين فتح العرب الأمصار، فإذا أهلها مشدوهون، وإذا هم يهجرون لغاتهم المختلفة إلى لغته الصافية الشفافة. واقرأ في قوارعه حين يتحدث عن البعث والحساب والعذاب، وفي ملاطفاه حين يتحدث عن الرحمة والمغفرة، أو حين يتحدث إلى رسوله، فإنك ستجد الأسلوب دائما مطردا في جودة اللإفهام وروعته مع سهولة اللفظ ومتانته وسلامته من التكلف.[6]
الأسلوب:
لقد اختلفت التعريفات الغوية لكلمة “أسلوب” وذلك تتعدد معناها واختلاف استعمالاتها. يقول ابن فارس: “السين واللام والباء أصل واحد- وهو أخذ الشيئ بخفة واختطاف.[7] ويقال للسطر من النخل” أسلوب” وكل طريقة ممتد فهو أسلوب. ويقال إن كل شيئ الممتد من غير اتساع فهو أسلوب.[8] الأسلوب معناه: الوجه والطريق والمذهب. يقال:أنتم أسلوب شر، جمعه أساليب[9] والأسلوب معناه الطريق[10]وقد سلك أسلوبه: طريقه وكلامه على أساليب حسنة.[11]والأسلوب بالضم: الفن، يقال أخذ فلان في أساليب من القول أي أفانين منه.[12]
فمن خلال هذه التعريفات اللغوية لكلمة “الأسلوب” نستشف مدى الارتباط الوثيق بينها وبين الأسلوب في الكلام. ونلاحظ ذلك ابتداء من كلام ابن فارس حيث أن أصل المادة (س،ل، ب) تعني أخذ الشيئ بحطفة واختطاف. وهو ما يحدث عند المتكلم حين يريد الكلام ليعبر عن أفكاره وأغراضه، فإنه يختطف الألفاظ بكل حفة وسرعة من قاموسه اللغوي ليركب بها بنية متكامكلة منتظمة متراطة العلاقات بين وحداتها. تحمل دلالات مختلفة سطحية وعميقة تتناسب وما يقتضيه السياق والحال. ثم أصبح نوعا من أنواع الحسنات المعنوية في علم البديع.
أسلوب الحكيم:
يعد أسلوب الحكيم عند البلاغيين من ضروب البلاغة العربية. وقد تعرض له. ونحن نتحدث عن أسلوب من أساليب القرآن الكريم. فإنه من اللازم علينا أن نتحدث عن الخطاب القرآني من حيث لغته وما يتميز به أسلوبه. وهذا يعطينا الصورة العامة له ويكون بمثابة التمهيد للحديث عن الأسلوب الحكيم في القرآن الكريم. ولا مرية أن لهذا القرآن أسلوبه الذي يميز بها فيه من خصائص فنية وسمات بلاغية ولطائف لغوية وسلامة منطقية وبراعة تعبيرية ودقة تصويرية وروعة بيانية. يقول الزرقاني في هذا الصدد: “أسلوب القرآن الكريم هو طريقة التي انفرد بها في تأليف كلامه واختيار ألفاظه“[13]ثم يقول: “ولا غرابة أين يكون للقرآن الكريم أسلوب خاص به، فإن لكل كلام إلهي أو بشري أسلوبه الخاص به، وأساليب المتكلمين وطرائقهم في عرض كلامهم من شعر أو نثر تتعدد بتعدد أشخاصهم بل تتعدد في الشخص الواحد بتعدد الموضوعات التي يتناولها والفنون التي يعالجها”.[14]يعبر الأسلوب الحكيم من الأساليب المعتبرة في التعبير القرآني ووجوده مخاطباته، وله قيمته الأسلوبية والبلاغية وجمالية الفنية. فهو من الأساليب الموجهة إإلى النضب، ليلهب مشاعرها ويهز كوامنها ويشحذ تفكسرها ليصل إلى أعماقها فيثيرها ويؤثرها فيها. لم يخرج القرآن عن معهود العرب في لغتهم العربية من حيث المفردات والجمل وقوانينها العامة. قد أعجز هم القرآن بأسلوبه الفذ، ومذهبه الكلامي المعجز عن أن يأتوا بمثله سورة واحدة أو آية واحدة.[15]
للأسلوب القرآني:
إن الأسلوب القرآني يجسد المعنى الذي يريد إيضاحه للملتقى في قالب من الصور البيانية تجعلها كأنها محسبة منظورة بين ناظريه، فينظر القاري في تفصيلات الصورة، وكأن المشهد يجري بين عينيه حيا متحركا، فتكون أقرب إلى لغتهم وأوضح في الذهن مما لو نقل المعنى مجردا من تلك الصورة الحية. يقول محمد بن بكر اسماعيل: ” فالقرآن الكريم يبرز المعاني المعقولة في صورة محسنة متنزعة من الواقع المشاهد مؤتلفة إئتلافا عجيبا في قوالب كلية متحركة تشعر منها الأصوات والألوان والحركات مما يجعلك تعيش مع الواقع الذي لثورة لك هذه والاستعارات والكنايات المسبوكة سبكا فريدا يأخذ بمجامع القلوب، ويمسك على الإنسان حسه ومشاعره. فلا يحتاج إلى مزيد تصوير للحقائق التي يذكرها القرآن في هذه اللوحات البراعة البديعة في عناصرها وإئتلافها وانسجامها مع معانيها ومراميها. والخصائص الأسلوبية لللغة القرآن التي جعلت لغته لغة جديدة: ومنها جمال التعبير، دقة التصوير، قوة التأثير، والتصوير القرآني.
جمال التعبير:
نزل القرآن الكريم بلسان عربي مبين. وقد احتوى على أعذب الألفاظ العربية وأفصحها وأبلغها مما تعرفه العرب وتداولته بينهم. ولم يخرج من كل ذلك عن سننهم في الكلام لا لفظا ولا معنى، لا لإفرادا ولا تركيبا، ومع ذلك وإن كانت تلك الألفاظ معهودة عندهم وجارت على ألسنة شعرائهم إلا أن القرآن الكريم قد فاق على جميع كلامهم وتحداهم بأقصر صورة منه رغم كونه من أرباب الفصاحة والبيان. فأتى القرآن بطريقة مفردة خارجة عن العادة لها منزلة في الحسن تفوق به كل الطريقة وتفوق الوزن الذي هو أحسن الكلام.[16]ويقول مصطفى صادق الرافعي في هذه الصدد: “إن القرآن الكريم إنما ينفرد بأسلوبه، لأنه ليس وضعا إنسانيا البتة، ولو كان من وضع إنسان لجأ على طريقة تشبه أسلوبا من أساليب العرب أو من جاء بعدهم إلى هذا العهد. ولا من الاختلاف فيه عند ذلك في طريقته ونسقيه ومعانيه.”ولو كان من عند غير الله لوجودا فيه اختلافا كثيرا”.[17]
دقة التصوير:
دقة التصوير هي نوع آخر من أنواع الجمال الفني المعجز الذي تتيه فيه عقول البلغاء في كل زمان ومكان. وهي من سمات الأساسية البارزة للأسلوب القرآني في طريقته التعبير عن المعاني، والأفكار والتصورات التي يريد إيصالها وإيضاحها للمخاطبين سواء كانت معاني ذهنية مجردة أو قصصا غابرة أو مشاهد ليوم القيامة وغيرها من المجالات. فالقرآن الكريم يبرز المعاني المعقولة في صور محسة منتزعة من الواقع المشاهد. ومن سمات الصور القرآنية أنها تصور الغائب حتى يصبح حاضرا، وتقرب البعيد النائي حتى يصير قيربا دانيا. ومن سماتها التلوين في التشبيهات. فكثيرا ما يكون المشبه واحدا والمشبه به شيئين فأكثر تثبيتا للمعاني المرادة وتعميقا لآثارها في النفس. لهذا كانت تشبيهات القرآن وأمثاله صورا حية تعبر عن الواقع، لا تعدوه إلى غيره، لا تخلو من الإمتاع العاطفي والتأثير الوجداني بما اشتملت عليه من ألوان المعاني والبيان والبديع.
قوة التأثير:
والأسلوب القرآني يميل إلى قوة التأثير يجمع الوسائل الفنية[18]وذلك مدعاة بالضرورة إلى التأثير في الإنسان لأنه المستهدف الأول في الخطاب القرآني. وهكذا رأيناه مع جماليات التعبير من حيث جودة المعاني وحسن التراكيب وبراعة التوظيف مع قوة الإيقاع إلى أن وصلنا لدقة التصوير مما يجعل من لوحات فنية تخاطب كيان الإنسان في صورة حية مشرقة. فالصورة اليبانية للأسلوب القرآني تبعث في النظم قوة التأثير بنفوذها إلى الذهن، وتسربها منه عبر أغوار العقل إلى أعماق القلب لتلامس مشاعر الإنسان بمؤثراتها القوية الفاعلة حتى تصل إلى محاصرة الإنسان من كل مشاعره الجسدية والنفسية والفكرية والوجدانية. يجمع القرآن في أسلوبه التأثيري بين وسائل التعبير ووسائل التصوير، وهذا يعنى أن أسلوب القرآن يخاطب العقل والقلب معا ويجمع الحق والجمال معا فيهز القلوب هزا ويتمتع العاطفة امتاعا.
للأسلوب القرآني قوة في التأثير، تنشأ هذه القوة من جمال التعبير ودقة التصوير، فالقرآن الكريم يخاطب بأسلوبه العقل والعاطفة في آن واحد ولا يخاطب العقل وحده لأنه ليس كتاب فلسفة يقف عند حدود سرد المقدمات. ولا يخاطب القرآن الكريم القلب وحده لأنه ليس كتاب أدب يعذب فيه الكذب ويروق فيه الخيال المفرط، وإنما هو كتاب هداية ومنهج حياة يهدي الناس إلى ما فيه صلاح أمرهم في الدنيا والآخرة ويقودهم إلى ساحات الخير فيدعوهم إلى الإيمان بالله في سلاسة الأسلوب وعذبة منطق وقوة حجة لا تدع لهم مجالا للشك والارتياب.
التصوير القرآني:
التصوير في القرآن الكريم يوجه أولا وقبل كل شيئ إلى النفوس البشرية يحدث فيها تأثيره الفعال. فإن هذه الصورة تعتمد على عنصر الصوت، وذلك لأن مادة الصوت هي مظهر الانفعال النفسي، فلذلك يرعى القرآن الكريم الأثر الصوتي الذي تتركه الكلمة على نفس المخاطب، وفي ذلك أنه يرعى أيضًا الجو النفسي والوجداني للمخاطب في كثير من الأحيان، فتؤثر الكلمة على ذهن المخاطب بشكلها ومبناها نفس الـتأثير الذي يؤثر به معنى الكلمة.[19]
نشعر من خلال التصوير القرآني بأن الكلام ورائه قوة أعلى من أن تنفعل بهذا الغرض أو ذلك، قوة تؤثر حين تصدر ولا تتأثر، قوة العالم بخفايا النفوس وطبائع الأشياء، فهو يسوق لها من ألوان المؤثرات ما يتناسب مع طبيعتها وينفذ منها إلى الأعماق. أما تأثير القرآني فإنه يسري في النفوس سريان الروح في الأجساد، فلا يزال يحركها، يتسلط على مشاعرها، فلا تملك النفس إلا أن تتابع بخيالها ووجدانها تلك الصورة ذاهبة وراءها كل مذهب. وحبنما ننظرإلى الأحداث والمشاهد، والقصص والمناظر، وأخبار الأمم الماضية والقرون الخيالية وإلى الحياة الإنسانية في حاضرها ومستقبلها، المسوقة في القرآن الكريم لأداء الغرض الديني، وإلى آياته المحكمات التي تعبرها وتصورها، إذ أن هذا التصوير والتعبير يأتي بالصورة الحسبة المتخلية عن المعنى الذهني والحالة النفسية، ورأيناها شاخصة حاضرة فيها الحياة والحركة. فإذا أضيف إليها الحوار فقد استوت لها عندئذ كل عناصر التاثير. ومن أجل ذلك تخاطب العقل والقلب معا. وهذه الصورة الحية النابضة التي يتملاها الخيال وتؤثر في الحس، تقنع الخيال وتمتع الوجدان. فالتصوير القرآني يتميز بالتناسق الفني البديع الذي يجمع في إطار الصورة مع رشاقة اللفظ ودقة المعنى، وجمال الاتساق بين اللفظ والمعنى. ومن خلال هذا التناسق نجد أن القرآن الكريم يستخدم كل ما يمكن من الوسائل المثيرة للخيال من تشبيه وتمثيل واستعارة وكناية وغيرها لكى تفعل فعلها في النفوس ولكى تتعمق الصورة وتثبت في الإدراك والوجدان.
يختص أسلوب التصوير القرآني بسرعة الانتقال وروعته من معنى إلى معنى أو من حالة إلى حالة انتقالا يحرك النفس ويزيد من متابعة الخيال لهذه الصورة المتتابعة، وهي تنقل من الدنيا إلى الآخرة وترتفع من الأرض إلى السماء وتتحول من خطاب الإنسان العاقل إلى الخطاب الجامد. إن التصوير القرآني مع كونه في أروع الكلمات افتنانا وتنويعا في الموضوعات هو أروع افتنانا وتنويعا في الموضوع الواحد مع أن هذه التحولات السريعة المستمرة والتنقلات العديدة المتنوعة مظنة الاضطراب ولكنه التصوير القرآني الذي يحتفظ دائما بتلك الطبقة العليا من متانة النظم وروعة التأليف وجودة السبك حتى صاغ من هذه الأفانين الكثيرة منظرا مؤتلفا متناسقا يشهد لهذه القدرة الباهرة بالعظمة والإبداع والإعجاز.[20]
والتصوير في القرآن الكريم يقصد به شرح النفوس الإنسانية المقفلة، وفتح العقول المغلقة لفهم الحقائق الدينية الناصعة وتليقها، لذلك تأتي فيه المعاني والمشاهد مصورة صادقة مخيلة محسوسة فصوره تموج كما تموج البحار الزاخرة وتهتز كما تهتز العواصف، وتتحرك كما تتحرك الأشباح لراكب مسرع في السير.[21]، وكذلك نجد أن كلا من السور القرآنية تتميز بالحركة والقوة ودقة التصوير وإبراز المعنى جزءا جزءا وحركة بعد حركة. فإذا تأملنا في هذه الأية الكريمة على سبيل المثال: “وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض ونفخ في الصور فجمعناهم جمعا”[22]لرأينا فيها هذه الحركة العنيفة المتدافعة ممثلة في أروع بيان وأبسط تعبير. لرأينا فيها هذا الإيجاز الرفيع البليغ من أداء المعنى كاملا غبر منقوص، ولرأينا فيها هذه الصورة البديعة لأروع تصوير للغرض المقصود. أما الآيات فنجدها تسير مع الفكرة المقصودة، والغرض المنشود في وحدة واتساق وفي نظام عجيب، ترتيب غريب. وتتحرك في معرض الاستدلال كأنها موكب من النور، ومهرجان مصور لأدق خفايا النفوس والشعور وحنايا الصدور وتتوالى في السورة كأنها اللؤلؤ المنظوم في العقد.
ومن أبرز مميزات الأسلوب القرآني أن يرعى رعاية دقيقة في نظمه وتأليفه الظروف والأوضاع والمناسبات ومقتضيات الأحوال، فأحيانا يطيل الكلام وأخرى يؤجزه إذا دعت إليه الحاجة والمقام، وطورا يقدمه وآخر يؤخره، ويعرفه وينكره، تارة يأتي الكلام حسب المكان من حيث الذكر والحذف، والتلميح والتصريح، والاستعارة والتشبيه، ودقة الإشارة وسرعة اللمح، وكل ذلك في أداء محكم معجز وإنشاء عال رصين مع موسيقى وروعة وبلاغة وتعبير.
نتيجة البحث:
هذه نظرات عابرة عن أسلوب القرآن الكريم وتعبيره في النثر الفني. يعجز الإنسان أن يحيط بما احتوى عليه القرآن الكريم وأسلوبه وتعبيره من أسرار البيان ودقائق الفرقان وروائع التصوير وجمال التعبير. قد استخدم القرآن الكريم العديد من الأساليب بغية التأثير في السامعين للوصول إلى أهدافه وتحقيق غاياته، من ذلك أسلوب التكرار، وأسلوب التقديم والتأخير، والذكر والحذف والإستفهام والالتفات. لم يلتزم القرآن الكريم في أسلوبه طريقة واحدة، وإنما يختلف باختلاف الظروف ويتباين مقتضيات الأحوال ويستخدم لكل حالة ما يناسبها من الإيجاز والإطناب، الذكر والحذف، التقديم والتاخير، الهدوء أو الانفعال والحرارة. وكل ذلك في بناء محكم وسبك جيد تناسق دقيق وانسجام لطيف وإنشاء بديع بيان رفيع. يجري أسلوبه على نمط فريد من بلاغة المتدفقة والفصاحة الباهرة والروعة التصويرية وجمال الديباجة وإشراق البيان وقوة المنطق ودقة التعبير وقوة التصوير وشدة التأثير. وله أسلوب يتدفق بالبلاغة وحرارة الإيمان والعاطفة الجياشة والفكر الرائع والخيال الصادق والنظم الرائع الذي يتملك على القارئ والسامعه لبه ووجدانه، وعقله وبيانه. وكذلك يتصف بجمال اللتعبير ودقة التشبيه حسن التأليف وفي أحكام الصنعة وجودة السبك وكمال البيان ومتانة النسج وروعة التصوير.
الهوامش:
[1] محمد رابع الحسني الندوي: الأدب العربي بين عرض ونقد، ص: 25-26
[2] عمر فروخ: تاريخ الأدب العربي، ص: 254-255 ، ج، 1
[3] محمد عبد المنعم خفاجي: الحياة الأدبية بعد ظهور الإسلام، ص: 17-18، مكتبة التجارية مصر، 1984
[4] محمد عبد المنعم خفاجي: الحياة الأدبية في عصر صدر الإسلام: ص، 265
[5] مصطفى صادق الرافعي:إعجاز القرآن والبلاغة النبوية،ص،3:، دار الكتاب العرب، بيروت، 1990م
[6] شوقي ضيف: العصر الإسلامي: ص، 33
[7] أحمد فارس بن ذكريا الرازي: مقاييس اللغة، تحقيق عبد السلام محمد هارون، دار الفكر عام 1979م ص 920
[8] نشوان بن سعيد الحميري اليمين، شمس العلوم ودواء كلام العرب من الكلوم، تحقيق حسن بن عبد الله العمري، دار الفكر المعاصر ، بيروت 1999م 5/ 3158
[9] محمد بن أحمد الأزهري: تهذيب اللغة 12/ 302) ( محمد بن منظور: لسان العرب، 1/ 473
[10] محمد بن محمد بن عبد الرزاق الحسيني الزبيدي، تاج العروس من جواهر القاموس، تحقيق مجموعة من المحققيين، دار الهداية 3/71، ومحمد بن منظور: لسان العرب/ 1/ 471
[11] الزبيدي: تاج العروس من جواهر القاموس 3/71
[12] محمد بن منظور: لسان العرب 1/ 473 و الزبيدي: تاج العروس من جواهر القاموس 3/71
[13] محمد عبد العظيم الزرقاني: مناهل العرفان في علوم القرآن: ص، 303
[14] نفس المصدر ص، 304
[15] الدكتور محمد عبد اله دراز: نظرات جديد في القرآن، ص161،دار القلم، الكويت 1977م
[16] عبد الرحمن بن أبو بكر: جلال الدين السيوطي: الإتقان في علوم القرآن، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم المكتبة العربية العامة لكتاب، 1971م3/ 18
[17] القرآن الكريم: سورة النساء: رقم الآية 82
[18] أحمد ياسوف: جماليات المفرة القرآنية، ص 249، دار المكي، دمشق، 1991م
[19] محمد رابع الحسني الندوي: الأدب العربي بين عرص ونق، ص 79
[20] محمد عبد المنعم خفاجي: الحياة الأدبية في عصرصدر الإسلام، ص: 251 دار الكتاب اللبناني، بيروت، 1984م
[21] سيد قطب: التصوير الفني في القرآن، ص، 149، دار الشروق القاهرة
[22] القرآن الكريم : سورة الكهف: رقم الآية 99
* الأستاذ المساعد، قسم اللغة العربية وآدابها، جامعة عالية،كولكاتا- الهند